لا يمكن وصف ما يجري في سورية اليوم، من تطاول روسي على سلطة الأسد ونظامه وداعمه الإيراني، جيشاً أو أجهزة أمنية، إلا بأنه انقلاب عسكري، ولكن ليس بأدوات سورية أو بهدف انتزاع السلطة لمصلحة المنقلبين، كما حال الانقلابات في البلدان العربية، إنما هو انقلابٌ لتغيير وجه النظام إعلامياً، وتغيير موازين القوى أمنياً، وإنهاء ملفات المنطقة سياسياً، بما يضمن مصالح إسرائيل وأمن حدودها، ورغبتها في استقرار التطبيع "فوق الطاولة" معها عربياً، وفق ما يمكن تسميتها صفقة القرن التي أنتجت مفاهيم جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي، وصنعت أجندةً جديدةً لأولويات شعوب المنطقة، ليس من بينها تحرير ما اغتصب من أراضيها، بل ترويضها وتدجينها تحت طائلة معاقبتها بأنظمتها الاستبدادية إلى الأبد.
استثمر قادة الانقلاب في سورية انشغال السلطات الأمنية والحزبية في تشكيل حكومة رياض حجاب، التي أعلن عنها في 23 يونيو/ حزيران 2012، وقادوا حراكاً سرّياً داخل أروقة
"التطاول الروسي على سلطة الأسد ونظامه، وداعمه الإيراني، جيشاً أو أجهزة أمنية، ليس سوى انقلاب عسكري" |
والحديث هنا عن انقلاب ثلةٍ من الأسماء المعروفة في النظام السوري، لتغيير مسار الثورة وإزاحة بشار الأسد، لا يعني بالضرورة أنه انقلابٌ لتحقيق إرادة الشعب السوري، وحقه في تقرير مصيره، وإنما يمكن وصف ما كان يخطط له بأنه "انقلاب" في إطار احتواء الأزمة أو تبريدها، ضمن ما كان يصفه أحد المشاركين في المخطط بأنه إبعاد للخطر الذي يحدق بالأسد شخصاً وبسورية بلداً، وفي الوقت نفسه، يمكن تفسيره بأنه عملية تصفية حسابات عائلية، تأخر فيها الانتقام المبيّت، الذي أسهم بتبني صهر الرئيس عملية الانقلاب المرتقب، إذ انتشرت الحكايات عن خلافاتٍ مصلحيةٍ بين قائد العملية الانقلابية، آصف شوكت، ونسيبه الأسد، ما جعله أساساً ضمن قائمة الأعداء المتوقعين، وأسهمت الرقابة المشددة في كشف العملية "المبيتة"، فسارع النظام ومساندوه إلى تفجير قاعة الاجتماع مع كل مريديه في عملية استخباراتية أودت بحياة كل المطّلعين والمخططين للانقلاب من أعلى القيادات في الحزب والأمن والجيش. ما يعني أن رئيس النظام السوري استطاع مبكراً أن يطيح الانقلابيين من جيشه، وأن يستثمر في قتلهم، وأن يحوّلهم من فاعلين متهمين بعملية الانقلاب إلى ضحايا للإرهاب الذي يطيح البلاد، مستفيداً من صلة القرابة التي تجمعه مع اللواء آصف شوكت، زوج أخته بشرى الأسد، أحد أهم أهداف التفجير الذي طاول مبنى الأمن القومي السوري على وجهين مختلفين:
أولهما تأكيد أن ما يعصف بالبلاد هو حربٌ بين الدولة، التي يمثلها نظامه ورموزه (ومنهم
"انكشاف تحركات الانقلابيين (18 يوليو 2012)، مرتبط بتسارع حركة هرب بعض القيادات في الجيش والأمن من سورية بعد عملية الاغتيال المدبرة" |
وثانيهما أنه وجّه رسالة حاسمة إلى قادة الجيش والسلطة، أن المهمة الموكلة لهم لم تعد حماية الحدود المحاذية لدولة الاحتلال الإسرائيلي التي تحتل، إضافة إلى الأراضي الفلسطينية، الجولان السوري منذ عام 1967، أو تلك الحدود مع تركيا التي تقتطع لواء إسكندرون شمالاً، أو مع العراق العاصف بالأحداث والتفجيرات الإرهابية شرقاً، بل إن المهمة الأساسية هي حماية كيان النظام القائم من الشعب السوري، الذي ينادي بإسقاطه في تظاهرات عمّت معظم المدن السورية آنذاك (منتصف 2012)، ما يوحي بأنها غير قابلة للانحسار، على الرغم من محاولات قمعها التي وصلت إلى قتل الجيش والأجهزة الأمنية ما يناهز مائة من المتظاهرين يومياً، واعتقال العشرات، وصولاً إلى ما يزيد عن مائة ألف معتقل سياسي، وحصار المدن ومنع وصول أغذية الأطفال إليها، أي إنه وضع أجهزة الجيش والأمن أمام خيار الاعتقال أو الموت، أياً كانت مكانتهم العسكرية أو حتى العائلية، بعد أن أصبح مقتل اللواء شوكت فزاعة النظام بوجه قادته العسكريين والأمنيين، ما حدا برموز قمعية أن تغادر سورية بصمت أو علانية، تحت مسمى انشقاقات ضباط سجلت مئات الضحايا في سجونهم وفي ساحات المدن التي قمعوا تظاهراتها.
ربما تجاوزت سورية مرحلة الانقلاب "المحلي" بسبب طبيعة تكوين الجيش، وربط مفاصله ومصالحهم برئيس النظام مباشرة، إلا أن الانقلاب الدولي في طبيعة العلاقات المصلحية المتحرّكة بين الدول الفاعلة في الصراع السوري، التي اتخذت من سورية ساحة لمعاركها هو أقسى بكثير في نتائجه على النظام، والشعب بشقّيه المعارض والمؤيد، وسورية الدولة اللينة حتى "الانعصار".
---------------------------------------------------
مصدر الخبر الاصلي موقع : العربى الجديد
0 تعليق